كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثمّ إن صاحبه بنى دارًا بألف دينار، فقال هذا: إن فلانَ بنى دارًا بألف دينار، وإني اشتريت منك دارًا في الجنة بألف دينار، فتصدّق بألف دينار. ثمّ تزوج بامرأة وأنفق عليها ألف دينار فقال: إنّ فلانَ تزوّج امرأة بألف دينار، وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدّق بألف دينار. ثمّ اشترى خدمًا ومتاعًا بألف دينار، فقال: إن فلانَ اشترى خدمًا ومتاعًا بألف دينار، وإني اشتري منك خدمًا ومتاعًا في الجنة بألف دينار فتصدّق بألف دينار.
ثمّ أصابته حاجة شديدة فقال: لو أتيت صاحبي هذا لعلّه ينالني منه معروف. فجلس له على طريقه حتى مرّ به في حشمه، فقام إليه، فنظر إليه الآخر فعرفه فقال: فلان؟ قال: نعم. قال ما شأنك؟ قال: أصابتني حاجة بعدك، فأتيتك لتصيبني بخير. فقال: فما فعل مالك فقد اقتسمنا مالًا واحدًا فأخذت شطره وأنا شطره؟ فقصَّ عليه قصته، فقال: وإنك لمن المصدّقين بهذا، أي بأنك تبعث وتجازى؟ اذهب فوالله لا أُعطيك شيئًا.
فطرده، فقضي لهما أن توفيا، فنزل فيهما: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} إلى قوله: {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الجحيم} [الصافات: 50: 55]، ونزلت {واضرب لهُمْ مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ}: بستانين {مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا}: أحطناهما {بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا}، يعني: جعلنا حول الأعنابِ النخلَ ووسط الأعنابِ الزرعَ.
{كِلْتَا الجنتين آتَتْ}: أعطت، يعني: آتت كل واحدة من الجنتين، فلذلك لم يقل: آتتا {أُكُلَهَا}: ثمرها تامًّا {وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا}، أي لم ينقص، {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا}، يعني: شققنا وأخرجنا وسطهما نهرًا.
{وَكَانَ لَهُ}، يعني: لفطروس {ثَمَرٌ}، يعني: المال الكثير المثمر من كل صنف، جمع ثمار. ومن قرأ: {ثُمْر} فهو جمع ثمرة. مجاهد: ذهب وفضة. ابن عباس: أنواع المال. قتادة: من كلّ المال. وقال ابن زيد: الثمر الأصل. {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ} المؤمن {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ}: يجاوبه {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}، يعني عشيرة ورهطًا. قال قتادة: خدمًا وحشمًا. وقال مقاتل: ولدًا، تصديقه قوله تعالى: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا}.
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ}، يعني: فطروس، أخذ بيد أخيه المسلم يطوف به ويريه إيّاها ويعجبه منها، {وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} بكفره، فلّما رأى ما فيها من الأنهار والأشجار والأزهار والثمار قال: {مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَدًا وَمَآ أَظُنُّ الساعة}: القيامة {قَائِمَةً}: آتية كائنة. ثمّ تمّنى على الله أُمنية أُخرى مع شكّه وشركه فقال: {وَلَئِن رُّدِدتُّ}: صرفت {إلى رَبِّي}، فرجعت إليه في المعاد {لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا}، أي من الجنة التي دخلها. وقرأ أهل الحجاز والشام {منهما} على لفظ التثنية، يعني الجنتين، وكذلك هو في مصاحفهم. {مُنْقَلَبًا}، أي منزلًا ومرجعًا. يقول: لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلاّ ولي عنده أفضل في الآخرة.
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} المسلم {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ} يعني خلق أباك وأصلك {مِن تُرَابٍ ثُمَّ} خلقك {مِن نُّطْفَةٍ} يعني ماء الرجل والمرأة {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}، أي عدلك بشرًا سويًّا ذكرًا. {لكنا هُوَ الله رَبِّي}، يقول: أما أنا فلا أكفر بربي، ولكنا هو الله ربي. قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير مجازه: لكن الله هو ربّي. وقال الآخرون: أصله لكن أنا فحذفت الهمزة طلبًا للخفة؛ لكثرة استعماله، وأُدغمت إحدى النونين في الآخرى، وحذفت ألف أنا في الوصل. وقرأ ابن عامر ويعقوب: {لكنا}، بإتيان الألف بالوصل، كقول الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني ** حميدًا قد تذريت السناما

ولا خلاف في إثباتها في الوقف. {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ الله}، {مَا} في موضع رفع، يعني: هي ما شاء الله، ويجوز أن تكون في موضع النصب بوقوع {شَاءَ} عليه. وقيل: جوابه مضمر مجازه: ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون. أخبرنا أبو عمرو الفراتي: القاسم بن كليب: العباس بن محمد الدوزي: حجاج: أبو بكر الهذلي عن يمامة ابن عبد الله بن أنس عن أنس بن مالك أن النبّي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى شيئًا فأعجبه فقال: {مَا شَاءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} لم يضرّه».
ثمّ قال: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا}، {أَنَاْ} عماد ولذلك نصب. {فعسى}: فلَعّلَ {رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ} في الآخرة {خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا}: يبعث على جنتك {حُسْبَانًا مِّنَ السماء}، قال قتادة والضّحاك: عذابًا.
وقال ابن عباس: نارًا. وقال ابن زيد: قضاء من الله عزّ وجلّ يقضيه. قال الأخفش والقتيبي: مرام من السماء واحدتها حسبانة، {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}، قال قتادة: يعني صعيدًا أملس لا نبات عليه. وقال مجاهد: رملًا هايلًا وترابًا. قال ابن عباس: هو مثل الحَزَن. {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا} أي غائرًا منقطعًا ذاهبًا في الأرض لا تناله الأيدي ولا الرشا والدلاء. والغور مصدرٌ وُضع موضع الاسم، كما يقال: صوم وزور وعدل، ونساء نوح يستوي فيه الواحد والاثنان والمذكر والمؤنث. قال عمرو بن كلثوم:
تظل جياده نوحًا عليه ** مقلّدة أعنتها صفونا

وقال آخر:
هريقي من دموعهما سجاما ** ضباع وجاوبي نوحًا قياما

{فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} بعد ما ذهب ونصب.
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} أي أحاط الهلاك بثمر جنّتيه، وهي جميع صنوف الثمار. وقال مجاهد: هي ذهب وفضة؛ وذلك أن الله أرسل عليها نارًا فأهلكها وغار ماؤها، {فَأَصْبَحَ} صاحبها الكافر {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ}: يصفق يده على الأُخرى، وتقليب كفيه ظهرًا لبطن؛ تأسفًا وتلهّفًا {عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا} يعني: عليها كقوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] أي عليها {وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} ساقطة على سقوفها، خالية من غرسها وبنائها {وَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا}.
قال الله عزّ وجلّ: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ} أي جماعة {يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله}: يمنعونه من عذاب الله، {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا}: ممتنعًا منتقمًا.
{هُنَالِكَ} يعني: في القيامة {الولاية لِلَّهِ الحق}، قرأ الأعمش وحمزة والكسائي {الولاية} بكسر الواو يعني: السلطان والأمر. وقرأ الباقون بفتح الواو، من الموالاة كقوله: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} [البقرة: 257]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ} [محمد: 11].
قال القتيبي: يريد: يتولون الله يومئذ، ويؤمنون به ويتبرّؤون مما كانوا يعبدون. وقوله: {الحق} رفعه أبو عمرو والكسائي على نعت الولاية، وتصديقه قراءة أُبيّ: {هنالك الولاية الحق لله}. وقرأ الآخرون بالكسر على صفة الله كقوله: {ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق} [الأنعام: 62]، وتصديقه قراءة عبد الله: {هنالك الولاية لله وهو الحق} فجعله من نعت الله. {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا} لأوليائه وأهل طاعته {وَخَيْرٌ عُقْبًا} لهم في الآخرة إذا صاروا إليه. والعُقب: العاقبة، يقال: هذا عاقبة أمره كذا، وعقباه وعقبه أي آخرة قوله.
{واضرب} يا محمد {لَهُم}: لهؤلاء المتكبرين المترفين الذين سألوا طرد الفقراء المؤمنين {مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء}، يعني: المطر. قالت الحكماء: شبّه الله تعالى الدنيا بالماء؛ لأن الماء لا يستقر في موضع وحال، كذلك الدنيا لا تبقى لأحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة وكذلك الدنيا، ولأن الماء يفنى كذلك الدنيا تفنى، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتلّ، فكذلك الدنيا لا يسلم من آفاتها وفتنتها أحد، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعًا مبقيًا وإذا جاوز الحد المُقدّر كان ضارًّا مهلكًا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع، وفضولها يضرّ. {فاختلط بِهِ}: بالماء {نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ} عن قريب {هَشِيمًا}، قال ابن عباس: يابسًا. قال الضحّاك: كسيرًا. قال الأخفش: متفتّتًا، وأصله الكسر. {تَذْرُوهُ الرياح}، قال ابن عباس: تديره. قال ابن كيسان: تجيء به وتذهب. قال الأخفش: ترفعه. وقال أبو عبيدة: تُفرّقه. القتيبي: تنسفه. وقرأ طلحة بن مصرف: الآية فقال: ذرته الريح تذروه ذروًا، وتذريه ذريًا وأذرته إذراءً إذا أطارت به، {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا}، قادرًا.
{المال والبنون} التي يفخر بها عيينة وأصحابه من الأشراف والأغنياء {زِينَةُ الحياة الدنيا}، وليست من زاد القبر ولا من عُدد الآخرة، {والباقيات الصالحات} التي يعملها سلمان وأصحابه من الموالي والفقراء {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} أي خير ما يأمله الإنسان. واختلفوا في {والباقيات الصالحات} ما هي؛ قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحّاك: هي قول العبد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر. يدل عليه ما روى مسلم بن إبراهيم عن أبي هلال عن قتادة أن النبّي صلى الله عليه وسلم أخذ غصنًا فحركه حتى سقط ورقه، وقال: «إن المسلم إذا قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، تحاتّت عنه الذنوب. خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن؛ فهنّ من كنوز الجنّة وصفايا الكلام، وهنّ الباقيات الصالحات».
وقال عثمان رضي الله عنه وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح: هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، ولا حول، ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم. يدل عليه ما روى القاسم بن عبد الله العمري، ومحمد بن عجلان عن عبد الجليل بن حميد عن خالد ابن عمران أن النبّي صلى الله عليه وسلم خرح على قومه، فقال: «خذوا جُنّتكم». قالوا: يا رسول الله، من عدوّ حضر؟ قال: «بل من النار». قالوا: وما جنتنا من النار؟ قال: «الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم؛ فإنهن يأتين يوم القيامة مقدّمات مجنِّبات ومعقِّبات، وهنّ الباقيات الصالحات».
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات». فقيل: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: «الملّة». قال: وما هي؟ قال: «التكبير، والتهليل، والتسبيح، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله».
وقال عبد الله بن عبد الرحمن مولى سالم بن عبد الله: أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي فقال: قل له: القني عند زاوية القبر؛ فإن لي إليك حاجة. قال: فالتقيا، فسلّم أحدهما على الآخر، ثمّ قال سالم: ما تعدّ الباقيات؟ فقال: لا إله إلاّ الله، والحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. فقال له سالم: متى جعلت: ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله؟ قال: ما زلت أجعله فيها. قال فراجعه مرتين وثلاثًا فلم ينزع، فقال سالم: أجّل. فأتيت أبا أيّوب الأنصاري فحدّث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عُرج بي إلى السماء فأُريت إبراهيم عليه السلام فقال: يا جبرئيل، من هذا معك؟ فقال: محمد. فرحّب بي وسهّل، ثمّ قال: مر أُمّتك فليكثروا من غراس الجنّة، فإن تربتها طيبة، وإن أرضها واسعة. فقلت وما غراس الجنّة؟ قال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله».
وقال سعيد بن جبير وعمرو بن شرحبيل ومسروق وإبراهيم: هي الصلوات الخمسة، وهي {الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114].
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هي الأعمال الصالحة: لا إله إلاّ الله، وأستغفر الله وصلى الله على محمد، والصلاة والصوم والحج والصدقة والعتق والجهاد والصّلة وجميع الحسنات التي تبقى لأهلها في الجنّة ما دامت السماوات والأرض.
وروى عطية عن ابن عباس قال: هي الكلام الطيب. وقال عوف: سألت الحسن عن الباقيات الصالحات، قال: النيّات والهمّات؛ لأن بها تُقبل الأعمال وترفع. قال قتادة: هي كل ما أُريد به وجه الله. والله أعلم.
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال}: نزيلها عن أماكنها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {تُسيَّر} بالتاء وفتح الياء {الجبال} رفعًا على المجهول، {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} ظاهرة كرأي العين ليس عليها شجر ولا جبل ولا ثمر ولا شيء يسترها. وقال عطاء: ترى باطن الأرض ظاهرًا قد برز الذين كانوا في بطنها فصاروا على ظهرها، {وَحَشَرْنَاهُمْ}: جمعناهم إلى الموقف للحساب، {فَلَمْ نُغَادِرْ}: نترك ونخلف {مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفًَّا} يعني: صفًّا صفًّا؛ لأنهم صفٌّ واحد. وقيل قيامًا، يقال لهم يعني للكفار، لفظه عام ومعناه خاص: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} يعني: أحياء. وقيل: عراة. وقيل: عُزّلًا. وقيل: فرادى. {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا} يعني: القيامة.
قوله تعالى: {وَوُضِعَ الكتاب} يعني كتب أعمال الخلق، {فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ}: خائفين {مِمَّا فِيهِ} من الأعمال السيئة، {وَيَقُولُونَ} إذا رأوها: {ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} من ذنوبنا؟ قال ابن عباس: الصغيرة: التبسّم، والكبيرة: القهقهة. وقال سعيد بن جبير: الصغيرة اللمم والتخميش والقبل والمسيس، والكبيرة: الزنا، والمواقعة، {إِلاَّ أَحْصَاهَا}، قال ابن عباس: عملها. وقال السّدي: كتبها وأثبتها. وقال مقاتل بن حيان: حفظها. وقيل: عدّها. وقال إبراهيم ابن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية قال: ضجّوا والله من الصغار قبل الكبار. وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لصغائر الذنوب مثلًا فقال: «كمثل قوم انطلقوا يسيرون حتى نزلوا بفلاة من الأرض فانطلق كل رجل منهم يحتطب، فجعل الرجل منهم يأتي بالعود ويجيء الآخر بعودين حتى جمعوا سوادًا وأجّجوا. وإن الذنب الصغير يجتمع على صاحبه حتى يهلكه».
{وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} مكتوبًا مثبتًا في كتابهم {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} يعني: لا ينقص ثواب أحد عمل خيرًا. قال الضحّاك: لا يأخذ أحدًا بجرم لم يعمله ولا يورّث ذنب أحد على غيره.
{وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ} يقول جلّ ذكره مذكّرًا لهؤلاء المتكبرين ما أورث الكبر إبليس، ويعلّمهم أنه من العداوة والحسد لهم على مثل الذي كان لأبيهم: واذكر يا محمد إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، {فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن}؛ اختلفوا فيه فقال ابن عباس: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن، خُلقوا من نار السّموم، وخلق الملائكة من نور غير هذا الحي. وكان اسمه بالسريانية عزازيل وبالعربية الحرث، وكان من خزان الجنّة، وكان رئيس ملائكة الدنيا، وكان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة حلمًا وأكثرهم علمًا، وكان يسوس ما بين السماء والأرض فرأى بذلك لنفسه شرفًا وعظمة فذلك الذي دعاه إلى الكبر، فعصى فمسخه الله شيطانًا رجيمًا ملعونًا. فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجُه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجُه، وكانت خطيئة آدم معصية، وخطيئة إبليس كبرًا.